شيخنا الفاضل :
قرأت ... يقول العلامة تقي الدين الحصني الشافعي عند عرض مسألة تتعلق بحكم استعمال الحرير للرجال ..... ( وإذا ركب ( أي الحرير) مع غيره مما يباح استعماله كالكتان وغيره ماحكمه ؟؟ ينظر : إن كان الأغلب الحرير حرم ، وإن كان الأغلب غيره حل ، تغليبا لجانب الأكثر إذ الكثرة من أسباب الترجيح .
فهل يجوز للرجل من هنا مثلا أن يلبس ثوبا في 60 بالمئة قطن ، 40 بالمئة حرير ؟؟
وكذلك ماهو قولكم في أكل من من ماله حرام ، هل يجوز أم لا؟؟ وهل نعود هنا للقاعدة ؟؟؟
الجواب :
بورك فيك أختي الداعية
الحرير مُحرّم على الرجال مُباح للنساء .
قال صلى الله عليه وسلم : لا تشربوا في إناء الذهب والفضة ، ولا تلبسوا الديباج والحرير ، فإنه لهم في الدنيا وهو لكم في الآخرة يوم القيامة . متفق عليه .
وقال عليه الصلاة والسلام : ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف . رواه البخاري .
ومعنى " يستحلّون " أي يجعلونها حلالاً زهي في الأصل حراماً .
ولما خطب عمر رضي الله عنه بالجابية قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة .
وفي الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخّص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص من حرير من حِكّـة كانت بهما .
وفي رواية للبخاري أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكَوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني القمل فأرخص لهما في الحرير قال أنس : فرأيته عليهما في غزاة .
وعليه فلا يجوز لبس الحرير للرجال إلا لحاجة فإن الرخصة لا تكون إلا بعد المنع .
فتعبير الصحابة بـ ( رخّص ) يُشعر بأن الأمر قبل الترخيص محظور – أي محرّم – والرُّخصة هنا إنما تكون بعد التحريم
قال ابن حزم : لا تكون لفظة الرخصة إلا عن شيء تقدم التحذير منه .
وقال الشاطبي : وأما الرخصة فما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الإقتصار على مواضع الحاجة فيه .
وقال صاحب كتاب القواعد والفوائد الأصولية : والرخصة لغة السهولة ، وشرعا : ما ثبت على خلاف دليل شرعى لمعارض راجح . وقيل : استباحة المحظور مع قيام السبب الحاظر
وقال الآمدى : الرخصة ما شرع لعذر مع قيام السبب المحرم .
وقال القرافى : هي جواز الإقدام على الفعل مع اشتهار المانع منه شرعا ؛ والمعانى متقاربة . اهـ .
قال الشيخ حافظ حكمي :
والرخصة الإذن في أصلٍ لمعذرةٍ === وضدها عزمـة بالأصلِ تنعقدُ
ومعنى قول العلامة تقي الدين : وإذا ركب أي الحرير ....
معنى ذلك أنه إذا خالطه ولم يظهر أنه حرير ولم يتميّز الحرير بشكله أو لونه .
مع أن هذا القول ليس على إطلاقه ، وهذا الكلام ليس قاعدة مُطّردة فليست الكثرة من أسباب الترجيح .
لأدلة كثيرة تنخرم معها هذه القاعدة .
ومن ذلك لو خالط الماء نجاسة وكانت نسبة الماء أكثر من نسبة النجاسة ولكنها أثّرت فيه فإن يحرم استعماله ويصير نجسا .
وكذلك قالوا في الشراب إذا ولغ فيه الكلب
وفي وقوع الفأرة في السمن ، وغير ذلك .
ولذ لما سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – :
عمن يتّجر فى الأقباع هل يجوز له بيع القبع المرعزي وشراؤه والاكتساء منه وما يجرى مجراه من الحرير الصامت أو يحرم عليه لكون القبع لبس الرجال دون النساء ؟ وهل يجوز بيعه للجند والصبيان إذا كانوا دون البلوغ أو لليهود والنصارى أم لا ؟ إلى غير ذلك من المسائل .
فأجاب : أما أقباع الحرير فيحرم لبسها على الرجال ولأنها حرير ولبس الحرير حرام على الرجال بسنة رسول الله وإجماع العلماء وإن كان مبطنا بقطن أو كتان ، وأما على النساء فلأن الأقباع من لباس الرجال ، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء ، وأما لباس الحرير للصبيان الذين لم يبلغوا ففيه قولان مشهوران للعلماء لكن أظهرهما أنه لا يجوز ، فإن ما حرم على الرجل فعله حرم عليه أن يمكن منه الصغير فإنه يأمره بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ويضربه عليها إذا بلغ عشرا فكيف يحل له أن يلبسه المحرمات ، وقد رأى عمر بن الخطاب على صبيّ للزبير ثوبا من حرير فمزقه وقال : لا تلبسوهم الحرير ، وكذلك ابن مسعود مزق ثوب حرير كان على ابنه ، وما حرم لبسه لم تحل صنعته ولا بيعه لمن يلبسه من أهل التحريم ، ولا فرق في ذلك بين الجند وغيرهم فلا يحل للرجل أن يكتسب بأن يخيط الحرير لمن يحرم عليه لبسه فإن ذلك إعانة على الإثم والعدوان وهو مثل الإعانة على الفواحش ونحوها ، وكذلك لا يباع الحرير لرجل يلبسه من أهل التحريم ، وأما بيع الحرير للنساء فيجوز ، وكذلك إذا بيع لكافر فإن عمر بن الخطاب أرسل بحرير أعطاه إياه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل مشرك . انتهى كلامه – رحمه الله – .
وبالنسبة لمسألة الأكل من مال من كسبه حرام ، فإن كان كل كسبه حرام فالأكل منه حرام
وإن كان أغلب كسبه حرام فالأكل منه حرام .
وإن كان المال الحرام يدخل في كسبه فهو من المُتشابِه .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن ، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام .. الحديث . رواه البخاري ومسلم .
وهناك جانب آخر في المسألة ، وهو جانب السياسة الشرعية ، فيُترك الأكل من طعام من اشتبه كسبه تأديباً له .
والله سبحانه وتعالى أعلم .